ابن الشاطر مخترع الآلات البديعة وصاحب الإسهامات الباهرة

 

يعتبر عامَ 1543 للميلاد نقطة تحول في تاريخ علم الفلك، ذلك عندما أعلن العالم الفلكي نيكولاس كوبيرنيكوس عن ثورته ضد نظرية بطليموس التقليدية التي تقول بمركزية الأرض (وذلك في كتابه the revolutionibus orbium coelestium وحلت محلها مركزية الشمس، لكننا عندما نعود إلى الوراء بما يزيد عن قرنين من الزمان أي إلى القرنِ الرابعِ عشر للميلاد، فسنجد أن عالما من دمشق معاصر للعهد العثماني قد أثبت هذه النظرية إثباتا علميا.

أبو الحسنِ علاءُ الدين علي بن إبراهيم الأنصاري ابن الشاطر، الفلكي الرياضي الماهر، صاحب الأعمال الباهرة. والآلات البديعة. مولده في دمشق في 15 من شعبان سنة 705 هـ - 1304 م. توفي والده وهو ابن ست سنين، فكفله جده، وتلقى تعليمه الأولي واشتغل بالفقه واللغة، وأرسله جده لزوج خالته وابن عم أبيه علي بن إبراهيم بن الشاطر، وعلى يديه تعلم حرفة تطعيم الخشب بالعاج، وكون ثروة وفيرة مكنته من الرحلة إلى عدد من البلدان كالقاهرة والإسكندرية ليأخذ العلوم الرياضية والفلكية عن أربابها، حتى صار أحد آحاد زمانه في الفلك، وتولى وظيفة التوقيت ورئاسة المؤذنين في المسجد الأموي بدمشق. انقطع ابن الشاطر للعلم واختراع آلات الرصد. وقراءة كتب هذا الشأن، وكان أبرزها آنذاك (المجسطي) لبطليموس ومؤلفات نصير الدين الطوسي، وكان مع سعة علمه ونبوغه، لا يتصدى للتعليم ولا يفخر بعلومه.

ابن حجر العسقلاني: "كان أوحد زمانه في ذلك -الفلك-... وكان لا يتكثر بفضائله ولا يتصدى للتعليم ولا يفخر بعلومه..."

اخذ عنه شمس الدين الحلبي وشهاب الدين احمد بن غلام الله بن الحاسب، ومحمد بن ابرهيم وعولوا عليه في ازياجهم. وقد قدر السلطان العثماني مرادخان الأول مكانة ابن الشاطر فشجعه وأغدق عليه بالمال، وكلفه بمتابعة الرصد والتأليف، فكتب الكثير من المؤلفات. وأبدع العديد من الآلات.

وكان من إبداعات ابن الشاطر الجليلة اسطرلاب بديع، جعله على حائط منزله في دمشق.

يقول الصفدي " ...ودخلت منزله في شهر رمضان سنة ٧٤٣ لرؤية الإسطرلاب الذي أبدع وضعَه، فوجدته قد وضعه في قائم حائط في منزله داخل باب الفراديس بدرب الطيار، ورأيت هذا الإسطرلاب فأنشأ لي طرباً، وجدد لي في المعارف رأياً...وصورة هذا الإسطرلاب المذكور قنطرة نصف أو ثلث ذراع تقريباً، يدور أبداً على الدوام في اليوم والليلة من غير رحى ولا ماء وعلى حركات الفلك، لكنه قد رتبها على أوضاع مخصوصة تعلم منها الساعات المستوية والساعات الرملية الزمانية."

ومن أعمال ابن الشاطر البديعة أيضا، آلة أطلق عليها اسم "البسيط" وضعها في منارة العروس إحدى منارات المسجد الأموي وتعرف بها أوقات الصلوات بدقة. وبقيت فيها إلى سنة 1293 هـ 1876 م فاختلت مع مرور السنين عليها ومال أحد جوانبها، وأدت محاولة إصلاحها إلى تعرضها للكسر، فصنع العلامة محمد الطنطاوي مثيلا لها فجاءت في غاية الضبط والإتقان.

مارس ابن الشاطر أرصاده الفلكية في مرصده في الشام بسورية. وعلى هذا المرصد بنى كثيراً من أبحاثه وملاحظاته، فصحح المزاول الشمسية، ونجح في قياس زاوية انحراف دائرة البروج بدقة كبيرة، حيث قدَّرها بـ ٢٣ درجة و٣١ دقيقة. 

يقول جورج سارطون :

"إن ابن الشاطر عالم فائق في ذكائه، فقد درس حركة الأجرام السماوية بكل دقة، وأثبت أن زاوية انحراف دائرة البروج تساوي ٢٣ درجة و٣١ دقيقة سنة ١٣٦٥ علماً بأن القيمة المضبوطة التي توصل إليها علماء القرن العشرين بواسطة الآلات الحاسبة هي ٢٣ درجة و٣١ دقيقة و١٩,٨ ثانية".

ولابن الشاطر آراء ونظريات في الحساب والجبر والهندسة والفلك، تبوأ بها مكانا عليا. وبلغ بها من الشهرة مبلغا عظيما.

 ولعل أهمها فتحه الجديد في علم الفلك التي أثبتها بفضل الأرصاد التي قام بها. حيث قال بأن الأرض تدور حول الشمس، والقمر يدور حول الأرض. متوجا بذلك جهوده السابقة، ومخالفا اعتقاد بطليموس الذي ساد لقرون، وممهدا للثورة الحديثة في علم الفلك.

يقول ابن الشاطر: "غرضنا أن نورد في هذه المقالة هيئة أفلاك الكواكب على الوجه الذي ابتكرناه وهو السالم من الشكوك، الموافق للأرصاد الصحيحة ... ونضيف إلى ذلك ما يجب إضافته مما يحتاج إليه ويستدل عليه من الأصول والمسائل الضرورية، ...وقد تقدم بطليموس وغيره من المتقدمين والمتأخرين بوضع أصول إلا أنها لا تفي بالمطلوب لأنها مخالفة لما تقرر في الأصول الهندسية والطبيعية. وقد أورد جماعة من محققي هذا العلم على تلك الأصول شكوكا يقينية، وأوردنا نحن كذلك شكوكا أخرى دققنا عليها بالرصد وغيره. ... وقد تتبعنا تلك الشكوك الواردة على تلك الأصول، وشرحنا ذلك في كتابنا الذي سميناه (تعليق الأرصاد) ..."

وفي هذا الكتاب يصف ابن الشاطر ما أنجزه من أرصاد، ويشرح نظريته الخاصة عن الكواكب. وهو كتاب مفقود.  

كما ألف ابن الشاطر عدداً من الكتب أوصلها بعضهم إلى مايزيد على الثلاثين لا يزال أكثرها مفقودا، منها "النفع العام في العمل بالربع التام لمواقيت الإسلام". وهي رسالة كبيرة من مقدمة وخاتمة ومائتين بابا سلك فيها طريقة المسألة والجواب ثم اختصر منها رسالة ثانية. وهي حول العمل بالة الربع.

 وله كذلك:

كتاب "الزيج الجديد" الذي كتبه بطلب من الخليفة العثماني مراد الأول. قدم فيه نماذج فلكية ونظريات وقياسات قائمة على التجارب والمشاهدة والاستنتاج الصحيح. لم يسبق إليها. وقد حظي هذا التأليف بعناية كبيرة، فقد اختصره محمد بن عبد الرحيم المخللاتي وسماه نزهة الناظر باختصار زيج ابن الشاطر. كما اختصره: شمس الدين الحلبي. وسماه: (الدر الفاخر). وصححه: الشيخ، شهاب الدين: أحمد بن غلام الله بن أحمد الحاسب وسماه: (نزهة الناظر، في تصحيح أصول ابن الشاطر). ثم اختصره: على وجه بديع باسم: (اللمعة، في حل الكواكب السبعة) ولخصه ايضا ابن زريق الجيزي الشافعي الموقت وأطلق عليه "الروض العاطر في تلخيص زيج ابن الشاطر"

كما ظلت كتبه في الأسطرلاب والمزاول الشمسية متداولة لعدة قرون في سائر الأقطار الإسلامية.

"الاشعة اللامعة في العمل بالآلة الجامعة" وهي آلة اخترعها ووضعها لتكون مدارا لاكثر العلوم الرياضية، اختصره بعضهم وسماه بالثمار اليانعة في قطوف الآلة الجامعة فرتب على مقدمة وثلثين بابا وخاتمة.

ومن تآليف ابن الشاطر كذلك:

"نزهة السامع في العمل بالربع الجامع" من مقدمة وخاتمة وإحدى واربعين بابا

"أرجوزة في الكواكب"

"رسالة في الأسطرلاب"

"مختصر العمل بالأسطرلاب"

ورسالة في "كشف المغيب في الحساب بالربع المجيب"

"الروضات الزاهرات في العمل بربع المقنطرات" وهو على مقدمة وخمسة وثلثين بابا.

استمر ابن الشاطر في إبداعاته وإسهاماته إلى أن كانت وفاته في دمشق سنة 777هـ - 1375م.

قال ابن إياس الحنفي (ت: ٩٣٠ هـ) في حقه:

 "العلامة الفلكي وكان علامة في علم الهيئة وعلم الحساب والهندسة، وكان أوحد زمانه في هذا الفن"

ويقول الصلاح الصفدي: "هو الإمام فريد الزمان المحقق المتقن البارع الرضي أعجوبة الدهر... رأيته غير مرة ودخلت منزله في شهر رمضان سنة ٧٤٣ لرؤية الإسطرلاب الذي أبدع وضعه ... وقلت أن من تقدمه من الأفاضل عند جبل علمه الراسخ هباء ... فسبحان من يفيض على بعض النفوس ما يشاء من المواهب ويجدد في كل عصر من يحييي رسوم الفضل الذي عدم في الليالي الذواهب ..."

 

المصادر والمراجع:

كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون - المجلد 2 - الصفحة 965

خطط الشام - المجلد 4 - الصفحة 46

إنباء الغمر بأبناء العمر - المجلد 1 - الصفحة 116

شذرات الذهب في أخبار من ذهب - المجلد 8 - الصفحة 435

الدارس في تاريخ المدارس - المجلد 2 - الصفحة 299

معجم المؤلفين - المجلد 7 - الصفحة 8 – كحالة

نيل الأمل في ذيل الدول - المجلد 2 - الصفحة 107

الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة - المجلد 4 - الصفحة 9

هدية العارفين - إسماعيل الباباني

آثار الادهار - المجلد 1 - صفحة 268

بناة الفكر العلمي في الحضارة الإسلامية - المجلد 39

الأزهر الشريف - المجلد 19 - الصفحة 508

مجلة الرسالة - المجلد 146 - الصفحة 138

مجلة الفيصل العدد 267

الموسوعة العربية العالمية - المجلد 255 - الصفحة 1

موسوعة مشاهير العلماء - صفحة 11 - مصطفى علي

ABDS

إرسال تعليق

أحدث أقدم
Update cookies preferences